جبهة المساندة و أغفال النفسية الإسرائيلية
عندما قرر حزب الله فتح جبهة الجنوب في 8 أكتوبر أعلن عن هدفه وهو مساندة غزة من منطلق واجب ’’ديني وأخلاقي وإنساني’’. وبعد الهجمات الهمجية المؤخرة على كامل الأراضي اللبنانية، عاد وذكر إن إسرائيل كانت تهدف منذ البداية الهجوم على لبنان. ودعما لهذا الموقف يقول بعض الصحفيين الداعمين لحزب الله إن معارضي فتح جبهة الجنوب يجهلون تاريخ إسرائيل التوسعي. يبدو إن هؤلاء الصحفيين، انطلاقا من هذه الثابتة التوسعية لم يعودوا يراقبون كيف تتكيف هذه الدولة مع الواقع. فهذه الدولة قامت على الإعتداء وإغتصاب حقوق شعب برمته وتهجير أكثر من 1,000,000 فلسطيني بعدما احتلت أرضهم في عامي 1948 و 1967. و لم تعلن يوما عن حدودها فحسب من يحكمها وهلوسات يمينها الديني العنصري، تضع حدودها عند أراضي 1948 أو ما تسميه يهودا و السمراء، أي الضفة الغربية، أوغزة، إلى أراض في لبنان ومن النيل حتى العراق للتوراتيون. لكن إسرائيل هي أيضا دولة تعرف قدراتها وتعلم أين الممكن من الصعب أو المستحيل بين كل هذه الطموحات والهلوسات التوسعية. فحتى الآن في الضفة الغربية، ورغم مقاومة الفلسطينيين، نظرا لأهمية تلك المساحة دينيا واستراتيجيا، تكابر وترفض الانسحاب منها لا بل تضاعف استعمارها. ولمحاولة إطفاء معارضته أبرمت اتفاقيات سلام مع عدة دول عربية من أهدافها تمييع المطالبة بإعادت الضفة الغربية لسكانها وقيام دولة فلسطنية. في غزة حاولت عبر الحصار و الإبادة والتدمير اليوم كسر اندفاع مقاومتها لفك الحصار. لكن في الوقت نفسه أدرك ارييال شارون، مجرم الحرب، إن لا إمكانية لحماية 8000 مستوطن داخلها، فإنسحب منها عام 2005. في لبنان في العام 1982 كان هدف إسرائيل قطع ’’رأس الحية’’ أي منظمة التحرير، في بيروت، فاجتاحت لبنان وتموضعت في الشريط الحدودي. لكن وصلت إلى نتيجة إن لبنان ليس الضفة الغربية وإن اللبنانيين مصممين على طردها. فإهود باراك رئيس الوزراء ورئيس أركان الجيش السابق قرر الانسحاب من لبنان عام 2000 مدركا خطورة البقاء في لبنان. كان الرأي العام الإسرائيلي يطالب بالانسحاب، والتكلفة المادية وبالأرواح تحت ضربات المقاومة لا تحتمل (معدل مقتل جندي كل أسبوع على مدى سنوات الاحتلال). ولم يحاول المتطرفين إقامة مستوطنات في جنوب لبنان. لبنان برمته مستنقع مميت لإسرائيل. انسحبت إسرائيل محتفظة ببعض الأراضي كرابط اشتباك مع بلد يعاديها أخلاقيا و إنسانيا لتضامنه مع القضية الفلسطينية، ثابتة وجدانية عند الشعوب العربية وخاصة لبنان الذي أكثر من ضحى من أجلها.
لكن هنالك مسافة بين الالتزام الديني و الأخلاقي والإنساني لمساندة غزة والممكن انطلاقا من معرفة واقع العدو. فلم يحتسب جيدا حزب الله جهوزية إسرائيل لتدمير قسما وفيرا من ترسانته الدفاعية، وتفوقها التكنولوجي واختراق هيكله العسكري الذي أدى إلى اغتيال أغلب قادته وعلى رأسهم السيد حسن نصرالله الشخصية الملهمة و الصادق بوعوده والصورة الأبوية لجمهور واسع متعذر استبدالها، و اغتيال مئات المقاتلين قبل أي مواجهة مباشرة مع جنود العدو. كما يبدو إن الحزب لم يتعمق لفهم النفسية الإسرائيلية لا بل النفسية اليهودية بالتحديد. فهذا الشعب منذ نشأته مضطهد ومرغم إلى الهجرة، بداية من قبل الفراعنة و الرومان، مرورا بأوروبا المسيحية في القرون الوسطىا التي ظلمته وطردته من القارة العجوز (ولقي ملجأ في أرض الإسلام) حتى باتت تقرضه نهائيا خلال الحرب العالمية الثانية. فهجوم حماس في 7 أكتوبر وما أدى من اغتيال مدنيين وقتل عسكريين وأسرهم بطريقة مباغتة بعد اجتياح القرى المحازية لغزة، أيقظ عند اليهود الإرتعاب من الإبادة والخطر الوجودي من أعماق ذاكرتهم الجماعية، ولو عمليا لم يكن الحال كذلك، ودفعهم إلى القيام بمجازر تجاه شعب غزة ومن بعده لبنان دون هدف استراتيجي في الأفق و وانعدام الرؤية لليوم التالي والمخاطرة بحياة أسراهم. فهذا الإيقاظ وما نتج عنه تجسد بغياب العقلنة والمنطق عند الشعب الإسرائيلي وحكامه.أدراك هذه الدوافع لن يبررما قامت به إسرائيلل، لكن من المستغرب أن لم يلتفت حزب الله إلى هذه المكون بالنفسية اليهودية، و التفسير الأقرب للمنطق لهذه الغفلة أنها لم تكن كذلك، بل إن أمر فتح جبهتي غزة ولبنان أو أقله لبنان، أتى من إيران التي لم تقم بأي اعتبار لحياة الشعبين الفلسطيني واللبناني، بل دفعتهم إلى ركوب هذه المغامرة دون توجيههم وتمويلهم لبناء مقومات الصمود من ملاجئ ومستشفيات محصنة وغيرها لحماية الناس و تأمين الخدمات الحيوية.
إيران التي منذ 7 أكتوبر أعادت و كررت رغبتها بزوال إسرائيل، اليوم من خلال حماس وحزب الله، تجهل أو تتجاهل إن هذه العملية أعادت اللحمة إلى مجتمع كان بدأ يتفكك ويضع مستقبله بخطر نظرا للتناقضات التي تعصف بجسمه. وكنت في كتاب صدر عام 2023 (1)، مستندا إلى عدة مؤشرات تطال كل جوانب المجتمع الإسرائيلي، أظهرت كيف أن أللا إجماع يهدد بنيانه. وعصب هذا التزعزع الداخلي هو اليمين الديني ذاته الذي يهلوس بإتجاه توسيع جغرافية إسرائيل. ما ألاحظه في هذا البحث هو دون ما قرأته مؤخرا في مقال (2) من باحثين وعاملين إسرائيليان في الحقل العام ، ينبهان بالحجة والبرهان ليس بالتنظير والتنبؤ الماورائي، إن دولتهما ستزول قبل عيد ميلادها ال100 أي قبل 24 عاما من اليوم. ويختصر العوامل الأساسية الهدامة لدولتهم بثلاثة. أولا الاقتصاد، أي عدم قدرة أقلية من الإسرائيليين إعانة إلى ما لا نهاية ثلاث فئآت من المجتمع و هم ’’الحرديم’’ أي المتدينون الذين بأغلبيتهم لا يعملون، و المستوطنون والسكان العرب. هل هذه الفئات الثلاثة التي تكلف الدولة سنويا مليارات الدولارات من الدعم المباشر وإنتاجيتهم تتراوح بين الضعيفة إلى المعدومة في الاقتصاد الوطني. ثانيا، تصادم الثقافات وعدم إمكانية مد الجسور بين ثلاث فئات نظرا لرؤيتهم المختلفة جذريا لماهية الدولة والمجتمع الإسرائيلي وهم، العلمانيون الليبراليون والمتدينين الذين ينادون بالتيوقراطية، والعرب، وكل فئة تحاول فرض رؤيتها على الآخرى. و عن هذين العاملين ينتج عامل ثالث وهو هجرة النخبة المنتجة، ويعتبر الباحثين إن مغادرة أسرائيل، 20,000 منهم أي 0.23% من إجمال السكان، يكفي لتنهار. ولا ذكر في هذه الأخطار الوجودية لإيران وجبهة الممانعة، لا بل كلما تخططت هذه الجبهة قواعد الاشتباك التقليدية بعمليات ك7 أكتوبر أطفئأت للخلافات الداخلية وفتحت على إسرائيل طوافان الدعم العسكري والمالي و والمعنوي من الغرب، بينما المساندين، من اليمن فهو غارق في الفقر ومحاصر، ومن العراق فهو راسب في الفساد وتشتت مراكز القرار، و بشار الأسد ناكرا ألجميل لحزب الله يتفرج، وإيران تفاوض رفع العقوبات عنها.
أمين عيسى
1-Amine Issa, La violence religieuse, textes et interprétations, Paris, L’Harmattan, 2023, pp 23-49.
2-Meirav Arlosoroff, At this rate, Israel Won’t Make It to Its 100th Birthday, Haaretz, May 19, 2024, https://rb.gy/utha8a