1 juillet 2021
الفدراليّة: خطر القراءات في الهويّات - التاريخ والواقع
ينطلق دعاة الفدراليّة في لبنان من تصنيف هويّة الجماعات اللبنانية وعلاقاتها التاريخية والحاضرة، فيعتبر هؤلاء أنّ المجموعات اللبنانية التي شكّلت لبنان الكبير عام 1920 هي "شعوب" لها خصوصيّات تمايزيّة تمنع التعايش بينها في "وطن-دولة" لكون هويّتها الأولى هي طائفيّة وتاريخها هو تاريخ صراعات متواصلة.
هذه الطوائف، وفق هؤلاء، تجتمع على تقاليد وطقوس وممارسات اجتماعية وسياسيّة وإقتصادية تتناقض مع ما يميّز الطوائف الأخرى. ومن هنا هذه الطوائف المختلفة عندما تُعبِّر عن نفسها تُظهِر أوّلاً اختلافها الاجتماعي النمطي مع الآخر، وتالياً العلاقة مع الآخر تكون أقلّه علاقة عدم ثقة، وإجمالاً علاقة عداوة.
وعلى سبيل المثال، إنّ علاقة الشيعة في لبنان مع الموارنة هي علاقة عداوة، والتاريخ شاهد على ذلك إن كان في البقاع أو الجنوب.
هذه الطوائف، وفق هؤلاء، تجتمع على تقاليد وطقوس وممارسات اجتماعية وسياسيّة وإقتصادية تتناقض مع ما يميّز الطوائف الأخرى. ومن هنا هذه الطوائف المختلفة عندما تُعبِّر عن نفسها تُظهِر أوّلاً اختلافها الاجتماعي النمطي مع الآخر، وتالياً العلاقة مع الآخر تكون أقلّه علاقة عدم ثقة، وإجمالاً علاقة عداوة.
وعلى سبيل المثال، إنّ علاقة الشيعة في لبنان مع الموارنة هي علاقة عداوة، والتاريخ شاهد على ذلك إن كان في البقاع أو الجنوب.
ويتذّكر دعاة الفدراليّة كل الحوادث العنفيّة بين هاتين الطائفتين على مدى التاريخ القريب والمعاصر.
ويكمن الخطأ في تصنيف الشيعة والموارنة كطوائف بالمعنى الذي شرحناه أعلاه. فهذه الطوائف يصفها الدكتور عزمي بشارة بالـ"جماعات المتخيّلة" (كتاب الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة( بمعنى أنّها تعطي لكل ما يميّزها صفة الهويّة المغلقة التي تجعل منها شعبًا بالمعنى السياسي أي طائفة سياسيّة لها مصالحها (أو عبارة "حقوق الطائفة" على ما هو رائج تسميته في لبنان) لا يمكن تحصيلها إلا من الطائفة الأخرى التي سلبتها منها. ويورد عزمي بشارة في كتابه: "في حالة الطائفية، وخلافاً لحالة الجماعة الأهلية، لا يعيش الفرد في الجماعة بل تعيش الجماعة فيه؛ تسكنه. ولا يتشارك معها القِيَم ذاتها بالضرورة. المهم هو الهويّة الناجية من تذوّت الجماعة (أي تَكوُّن الجماعة)، ولذلك تصبح الطائفية السياسية في إنتاج هذا النوع من الطائفة".
فلنعد إلى التاريخ القريب والحديث لنستنتج ما إذا كانت فعلاً هويّة الطوائف السياسية مغلقة، وأنماط معيشتها متناقضة، ومصالحها متعارضة والعداوة سمة علاقاتها.
في نمط الحياة، ألم يكن شيعة وموارنة البقاع الشمالي أقرب من بعضهم بعضاً من نمط الحياة بين شيعة البقاع والجنوب؟ من الواضح أنّ النمط القبلي المتجذّر في البقاع عند الطائفتين غير موجود في الجنوب.
التنظيم السياسي للشيعة في البقاع في حقبة تاريخيّة معيّنة كان على أساس الأمراء (حرفوش وحمادة) برضى السلطنة العثمانية الطائفيّة السنّية، ولم يعرفها أبداً شيعة الجنوب.
أما عن الموارنة والدروز، فيعتبر دعاة الفدرالية أنّ منطلق علاقتهم هو "طائفي سياسيّ" بحت، وهو لا يجيز التعايش بينهما. فإنْ كان من الواضح أنّه خلال القرن التاسع عشر تصارعت هاتان الطائفتان، إلا أنّ الاختلاف الطائفي لم يكن السبب الوحيد، إنّما كان حجّة قوية لتغطية صراع آخر وهو طبقي بين إقطاعيّين وفلاّحين، وهذا صراع تشهده كل المجتمعات غالبًا إبّان التحوّلات الاقتصادية الكبرى. وحتّى في القرون الماضية عندما كانت الهويّات ذات صفة دينيّة أوّلاً، لم يكن من علاقة للتمايز الديني في هذا الصراع. فمثلاً لم نر الإقطاع المسيحي في كسروان يقف إلى جانب موارنة الشوف ضدّ الإقطاع الدرزي. وحتى الآن يبقى السؤال عالقًا، لماذا لم يأتِ يوسف بك كرم لنجدة زحلة التي أحرقها الإقطاع الدرزي عام 1860، هذه المدينة الوحيدة في لبنان التي لم تعرف الإقطاع.
إنّ التعمّق في سرد الأمثلة التاريخية يتخطى مجال هذا المقال، لكن يمكننا الاستنتاج أنّ السرديّة الطائفية للهويّة المغلقة للجماعات وخصوصيّاتها وعلاقتها مع الآخر تنطلق أوّلاً من مقاربة سياسية لمصلحة القيّمين على هذه الجماعات ولشرعنة هذه المصالح في المخيّلة العامة. أي بمعنى آخر أنّ الطائفيّة السياسية هي التي تخلق الطوائف السياسيّة وليس العكس.
فالدكتور أحمد بيضون في كتابه "الصراع على تاريخ لبنان أو الهويّة والزمن في أعمال مؤرّخينا المعاصرين"، أوضح كيف أنّ كلاً من الطوائف الثلاث المارونية والشيعية والدرزية أرّخَت بطرق مختلفة غزوة كسروان من المماليك في القرن الرابع عشر لتبيّن كل طائفة حقّها في الجغرافيا ومظلوميّتها منفردة. ولا تزال هذه القراءة المختلفة لحدث واحد، وفاعل واحد، هم المماليك الدخلاء على الإسلام والمتطرّفين سنيّاً، لتبرير سلطتهم.
وحتى أيامنا هذه لم تتغير النظرة إلى الطائفية لا بل أصبحت الطائفية السياسية ومصالحها الوهمية المنطق الوحيد للأحزاب الطوائف والحجة لدعاة الفدرالية.
فهل من المقنع أن تكون مقاومة "إسرائيل" ميزة طائفيّة للشيعة على الرغم من أنّ مواطنين من غير طوائف سبقوها إلى المقاومة؟ هل قاوم الشيعة في الجنوب لأنّهم شيعة أو لأنّهم ككل البشر يولدون أحراراً ويرفضون الذل وتقويض حرّيتهم؟ عند تفكك الدولة ألم يقاوم غير الشيعة احتلالات أخرى ولا سيما الاحتلال السوري ومحاولة المنظّمات الفلسطينيّة السيطرة على القرار اللبناني؟
الخلاف بين اللبنانيّين إبّان الحرب حول الاحتلال الاسرائيلي ومن بعده حول الاحتلال السوري هل هو اختلاف طائفة حول معنى الاحتلال أو تصوير أنّ لكل طائفة مصلحة مختلفة بينما في الواقع الاحتلال احتلالٌ ولم يبقَ لبناني إلا ودفع عاجلاً أم آجلاً ثمن هذه الاحتلالات؟
وهل صحيح مثلاً أنّ "الشعب" الماروني في لبنان هو شعب واحد متضامن ضد "الشعوب" السنّية والدرزيّة والشيعيّة؟ هل هم من ارتكبوا مجزرة إهدن أو من "قاوموا" بالانتفاضات الدمويّة في "المناطق الشرقية" ودمّروها كليًّا وفتحوها أمام الاحتلال السوري عامي 1989 و1990؟
هل الشيعة "شعب" واحد بوجه "الشعوب" الأخرى عندما أدّت أحداث إقليم التفاح وبيروت إلى مقتل أكثر من 500 مواطن من هذه الطائفة؟
أليس المنادون بالشعوب المسيحية والإسلامية أقرب إلى بعضهم بعضاً بنفسيّتهم المنغلقة والإقصائيّة وبنمط حياتهم ممّا يفرّقهم بالطقوس الدينيّة؟ هل من المقنع أن نفصلهم لأنّ الأوّل يحتسي الكحول والآخر يمتنع؟ أليس العلماني في أدائه الاجتماعي هو أقرب إلى العلماني الآخر ولو ذهب الأوّل إلى الجامع والثاني إلى الكنيسة؟
طبعًا ليس هدف هذه المقاربة نفي الفروق والتناقضات التي هي حقيقية وتُغزّى بالطائفية السياسية. بل الهدف هو الإضاءة على تضخيمها عمدًا من زعماء الطوائف بهدف سلطوي لا غير. وهذا التضخيم يخدم دعاة الفدراليّة الذين يَدْعون عن قصد أو عن جهل إلى استمرار الانحطاط العام من جرّاء الطائفية السياسية ولو بحلة جديدة تحت نظام الفدراليّة.
أوّلاً من حيث الواقع تغيب عن هؤلاء معضلة أساسية تكمن بنظام الفدراليّة. فهذا النظام من أسسه التكوينيّة أن يكون من صلاحيّات السلطة الفدراليّة، أي التي تُلزِمُ كل الكانتونات، قرار الدفاع والسياسة الخارجية والسياسة النقدية.
واليوم علام يختلف اللبنانيّون إلا على السياستين الدفاعيّة والخارجيّة؟
زد على ذلك، إنْ سلّمنا جدلاً أنّ النظام الفدرالي طُبّق، فمن سيحكم الكانتونات؟ سنرى الزعامات الطائفية الحاليّة مستشرية أكثر عند تقسيم الكانتونات على أساس طائفي، تستلم زمام الأمور وتستكمل عملها التدميري مثلما بدأت فيه إبّان ثمانينات القرن الماضي في المنطقتيْن الشرقية والغربيّة اللتين كانتا كانتونات فعليّة ولو غير معلنة.
فما هي الجدوى بنقل نظام الطائفيّة السياسيّة المدمّر من دولة اتّحادية إلى دولة فدراليّة؟
ومع ضرورة تطبيق اللامركزية الإدارية والمالية من أجل حوكمة حديثة ورشيقة لـ"الفضاء العام"، ومحاسبة أدق سياسيّاً عند تصغير دوائر القرار في الشأن العام، تبقى المواطنة الجامعة كأوّل هويّة لحلّ معضلة الطائفيّة السياسيّة إن كان في دولة مركزيّة أو فدراليّة. وهذا ما نطمح إليه، وهذا الوعي للحل الجزئي للبنان هو الذي تجلّى منذ 17 تشرين.
أمين عيسى
Commentaires