العنف اللفظي والانحطاط الحضاري.
بعد اتفاق وقف الأعمال العدائية بين حزب الله وإسرائيل في تشرين الثاني، تكاثرت موجة البودكاست والفيديوهات المسجَّلة على وسائل التواصل الاجتماعي. ما يميزها عن سابقاتها هو مستواها المتدني في الخطاب وتعميم الشتائم. بعض ضيوف البودكاست ومروِّجي التسجيلات يُنسب إليهم أو يدّعون التحليل السياسي ومهنة الصحافة، في حين أنهم لا يمتلكون أياً من هاتين الصفتين. فالصحافي المحلِّل، دون إنكار قناعاته الخاصة، ينطلق من الواقع والمواقف ليستنتج تحليلاً ما، بينما هؤلاء ينطلقون من موقف سياسي مسبق ويحلِّلون الواقع أو يحوِّرونه ليتناسب مع موقفهم. هذا ليس عمل صحافي تحليلي، بل دعاية (Propagande). ومن الأرجح أن هؤلاء ليسوا إلا أدوات تعبير للأحزاب ليقولوا ما لم يُسمح به من قبل مشغِّليهم، وهو قمّة النفاق واللامسؤولية.
ما يزيد خطورة هذا السلوك هو اللجوء الدائم إلى تخوين الآخر وشتمه وإذلاله، بما يقطع الطريق على أي حوار سياسي بنّاء، ويضع الآخر في قفص الاتهام الدائم لإقصائه. فإن كانت الشتيمة والإذلال يمنحان مطلقهما ومن يستمع إليه من مؤيديه شعوراً بالقوة والتفوّق، فهما في الواقع دليل على انحطاط ثقافي وحضاري. يقول نوربرت إلياس في كتاب "حضارة الأخلاق" إن الحضارات التي خرجت من دورات العنف والحروب المدمرة وتقدّمت وأعطت الأولوية للإنسان وكرامته هي التي فرضت التهذيب (Civilité) في العلاقات بين أفراد مجتمعاتها.
ما نراه اليوم ونسمعه، ممّا يدغدغ مشاعر أصحاب العنف اللفظي ونشر الكراهية ويوهمهم بالتفوّق، ليس إلا تغطية على الوهن. فمن جانب حزب الله وحلفائه هو محاولة إنكار لهزيمته العسكرية، ومن قِبل خصومه محاولة لتصوير أنفسهم على أنهم سبب تلك الهزيمة، في حين أنه ليس لهم أيّ دورٍ فيها. أبعد من ذلك، فإن هذا العنف اللفظي دليل على الهروب من مواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بلبنان، و انحطاط حضاري سيدمّر المجتمع.
/image%2F1137295%2F20251008%2Fob_f3e2dd_micro.jpeg)